و ممالك و امبراطوريّات شتّى انقرضت أو زالت لأنها ولدت ان لم يكن مصادفة، ففي ظروف غير عادية. ومعظم هذه الدول تضخّمت من دون هضم و اتّسعت رقعة نفوذها من دون ان تكون واعية لما يجري لها، فلمّا سقطت سقط معها كلّ شيء فكانت المآسي و الانهيارات التي تخلّلتها المذابح و المجازر و ما تلاها من تهجير قسري و تشرّد
و تسلّط و اغتصاب و احتلال من جهة اخرى. و بتأثير هذه الوقائع تلاشت قوى شعوب هذه الدول و خربت ديارها.
ما هو استقلال الدولة؟
مما تقدم من تاريخ الامم و الشعوب يطرح سؤالًا كبيرا و جوهريًّا:
ما هو الاستقلال و ما معناه؟
الاستقلال حالة لا تكون إلا حيث الشّدة و القوى و الثقة بالنفس. و هو ايضا صفة للكيان، ايّ كيان يعرف بها و تعرف به، كأن نقول : الكيان المستقل و استقلال الكيان، على أنّ الضعيف و القاصر و المحبوس لا يعدّ مستقلًّا. لذلك قيل :"الاستقلال يُؤخذ و لا يُعطى" و من علاماته، الحرية و العكس صحيح، اذ لا حرّية من دون استقلال كذلك لا استقلال من دون حرية.
اذا فمن لا يستطيع انتزاع استقلاله و المحافظة عليه ، اي على حريته، فهو تبعيّ، يؤمر فيطيع، بل يغمض عينيه و يُعقد لسانه، فاذا ما عاتبه أحد، قال: " انها من شدائد الدهر، و ليس المخاطر بمحمود ولو سلِم". فالاستقلال هو ارتفاع و اناقة و اشراق. فالطائر لكي يطير و يحلّق يجب ان يكون ذا جناحين متساويين أولًّا، و قويين ثانياً. و النبات لايثمر الا اذا ارتفع و تكامل. كذلك الامم و الشعوب، و كلّ امّة لا ترتفع الى صفّ الامم الكبرى لا تعدّ مستقلة، بل تابعة و ضعيفة و مهددة بالزوال.
و ما بالنسبة للبنان؟
اللبناني على مدى تاريخه الطويل خاض دائما حروبًا ثقيلةً، و اذا ما تيسّرت له قيادة حكيمة، كان جنديًّا صلبًا و هذا ما نراه عبر التاريخ القديم و الحديث. اذ ليس المهمّ ان نجتاح اراضي الغير و نوسع حدودنا و مناطق نفوذنا، وانما المهم ان نكون استقلاليين نصون ارضنا و نحميها.
هل نحن الآن اصحاب استقلال و حرية؟ و انني اسال اللبنانيين: ماذا بين الامس و اليوم؟ هل الحق على اللبنانيين ام على الغرباء و الاجانب؟ هل الحق على انكلترا و الدول السبع و حاليًّا على الولايات المتّحدة، و نحن لا نعلم من الذي سيخلف غدا هذا العملاق العالمي؟ و الحالة هذه ، هل نحتكم الى القانون الدولي؟ و ماذا عساه يفعل هذا القانون؟
ان المصالح الدولية، الا القانون الدولي، هي التي تملي على الدول مواقفها السياسية النهائية سواءً للّبنانيين او غيرهم. و الأصحّ هو ان اعتراف الدول العظمى بحرية الاقليّات وعد لا يتحقق، و عهد مولود ميتًا.
لقد طُبخت الحرية في البلدان الكبرى، ولكننا لم نتمكّن من اكلها بملعقة من الورق. لا ترجوا ايّها اللبنانيون اي امل من الاجانب البعيدين و الاقربين بل اعتمدوا على انفسكم بأنفسكم.
نحن اما كنا على طاولة الدراسة نتقاسم الرغيف و نغنّي للبنان، و الخريطة المعلّقة في غرفة الدرس، خريطة لبنان، التي تدل على حدوده، و مدنه و قراه، سهوله و سواحله، انهاره و امكانياته الاقتصادية، و موقعه الجغرافي... تلك الخريطة لم تدل يومًا على ان لبنان هو بلد لطائفة معينة دون اخرى او هو مِلك لحزب دون غيره.
في الزمن القريب كنّا نزرع فينا المحبة و الوفاء، نحافظ على الاخوّة الحقة ، و لكن لم ندرك عندها اننا سنصبح اشخاصًا آخرين، لو عصفت بلبنان الحوادث و النكبات. بل يجب ان نصرخ عاليا بوجه هؤلاء الذين يحاولون، و قد حاولوا ان يجعلوا لبنان ممزقا، ان يفهموا ان جيلنا يرفض غباوتهم و يمزق بياناتهم و سيحاكمهم بلا رحمة على اجرامهم.
هؤلاء الجبناء، شهواتهم قضت على المحبة فيهم، و قتلت فيهم روح التضحية و الاخلاص لوطن الانسان لبنان . اما جيلنا سيعيد زرع المحبة سلاما في ارضنا الطيبة، برفض ان يتغنّى بغير لبنان و ان يصلّي لغير لبنان.
جيلنا يصلي من اجل السلام حتى يخيّم على العالم السلام الحقيقي لشعوب الارض كلها.
لذلك يجب ان تُحمل صرخاتنا هذه الى المعنيين بالأمر، جميع المعنيين، الى المسؤولين... الى الآباء، الى الأمهات لنقول لهم:
صلوا من اجل لبنان
صلوا من اجل اولادكم
صلوا من اجل الحرية و الاستقلال
المحامي الياس عقل خليل