
لا وصفة محددة لدى كل مكوّنات الحكومة الآذارية والوسطية، للبيان الوزاري العتيد. الكل سيرمي "أثقاله" في اللجنة التي ستتألف، اليوم، وسيسعى بالتالي إلى أخذ أقصى ما يمكن أخذه في هذا الاتجاه أو ذاك.. والكل يقول بصعوبة تقديم تنازلات، لكن عبرة التأليف قد تستدعي من الجميع التواضع للوصول إلى بيان مقتضب جداً يبتعد عن العناوين الإشكالية.. وأن تكون مفرداته قادرة على إرضاء الجميع، خاصة أن ثمة إرادة خارجية وداخلية تدفع في اتجاه تثبيت الاستقرار اللبناني وتحصينه وإبعاده عن تداعيات الأزمة السورية الأمنية والإنسانية.
لم تأت الحكومة من خارج سياق إقليمي تميزه ثلاثة عناوين:
o أولها الأزمة السورية المفتوحة على مصراعيها، وهي تدخل طوراً جديداً بعد انتهاء جولة "جنيف 2" الثانية، يتداخل فيه الميدان المحتدم بالضغوط الخارجية المتجددة على النظام، وبالتالي تتعاظم مخاطر تمدد بعض الظواهر الى "الجوار السوري" وخاصة لبنان.
o ثاني العناوين، الإصرار الأميركي غير المسبوق على محاولة إنتاج تسوية فلسطينية ـ اسرائيلية تثبت يهودية الكيان الاسرائيلي وتشطب حق العودة.. ولبنان سيكون أكبر المتأثرين والمتضررين من مسار كهذا.
o ثالث العناوين، يتصل بالمسار الايراني ـ الغربي، وهو مسار يمر بمرحلة انتقالية، في ظل قوة دفع من الطرفين الأميركي والايراني بالخوض منذ الآن في مفاوضات الاتفاق النووي النهائي.. وحتماً لن يكون لبنان خارج تفاهم كهذا.
هنا، يصبح السؤال: هل يمكن للبنان الذي فاز بحكومة بعد انتظار دام حوالي 11 شهراً، أن يفوز برئيس جمهورية جديد؟
قبل أيام قليلة، صارح رئيس الجمهورية ميشال سليمان الجالسين الى طاولة العشاء الخاصة في القصر الجمهوري أنه تعب كثيرا.. ولذلك قرر أن يسلّم دفّة السلطة الى حكومة "فيها كل الناس"، أضاف: "لن أسجل على نفسي أنني رميت البلد في فراغ مجهول. هي مسؤوليتنا جميعا أن نحاول انتخاب رئيس جديد للجمهورية.. أنا لست راغباً بالتمديد، فقد أنهكتني المسؤوليات.. وأصابني المرض وأريد أن أرتاح".
المحيطون بالرئيس سليمان لا يخفون رغبتهم، ومن موقعهم حوله، بأن التمديد أفضل من الفراغ.. اذا تعذرت الانتخابات.. ولذلك، سيبقى هذا الخيار على الطاولة حتى آخر يوم من أيام الولاية السليمانية.
هل تراجعت قوة الدفع في هذا الاتجاه؟
يجيب العارفون أن الفرنسيين والسعوديين تراجعت نبرة حماستهم للتمديد، لا بل ان العاصمة الفرنسية، من خلال الموفد الرئاسي لشؤون الشرق الأوسط وشمال افريقيا إيمانويل بون، شجعت مرجعيات سياسية وروحية لبنانية عدة، وخاصة بكركي، على الاستعداد لإجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده، وبالتالي التحسب لسيناريوهات عقد جلسة رئاسية بنصاب الثلثين وتقديم أسماء يمكن أن تحظى بأكبر قدر ممكن من أصوات تزيد عن الغالبية المطلقة من عدد النواب في دورة الاقتراع الثانية، اذا تعذر الانتخاب في دورة الاقتراع الاولى بأكثرية الثلثين، وثمة حديث عن لائحة أسماء أولية تروّج لها بكركي تضم مبدئياً الوزيرين السابقين زياد بارود وروجيه ديب، بالإضافة الى المصرفي جوزف طربيه.
أما السعوديون، فقد أبلغوا السفير الأميركي ديفيد هيل في أثناء زيارته الأخيرة الى السعودية، أنهم يفضلون انتخاب رئيس جديد، وأن اسم جان عبيد يحتل المرتبة الأولى في لائحة مرشحيهم، بحكم موقعه الوسطي وعلاقاته المفتوحة داخلياً وعربياً وإسلامياً ودولياً.
حتى الآن، لم يقل الأميركيون كلمتهم في الاستحقاق الرئاسي، ولكنهم يشددون على وجوب "حماية الفرصة المتاحة أمام اللبنانيين لاختيار زعمائهم، كرئيس الجمهورية ومجلس النواب، بشكل حر وعادل وفي الأوقات المحددة وبالتوافق مع الدستور اللبناني"، وهي العبارة التي وردت في البيان المكتوب للسفير ديفيد هيل من السرايا، بعدما كان وزميله البريطاني طوم فليتشر في طليعة الوافدين لتهنئة تمام سلام في موقعه الجديد.
ويقول العائدون من العاصمة الأميركية إن واشنطن تريد رؤية رئيس جديد للجمهورية ولا تشجع أي مسار يؤدي الى تمديد جديد لولاية المجلس النيابي، وهي غير متحمسة للتمديد الرئاسي أو تعديل المادة 49 من الدستور لمصلحة هذا المرشح أو ذالك، لكن اذا بلغت الأمور حافة الفراغ، يمكن للنصوص الدستورية أن تتكيف مع ضرورة انتخاب رئيس جديد، لا أن يتم تثبيت الفراغ، استناداً الى نص الدستور.
يفتح هذا الكلام الأميركي الذي يجد صداه في الكثير من العواصم الأبواب أمام ترشيح كل من قائد الجيش العماد جان قهوجي وحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة، ولو على قاعدة ألا تهتز أدوار المؤسستين العسكرية والنقدية، باعتبارهما، حالياً، من أبرز ركائز الاستقرار اللبناني.
واذا كان الايرانيون (ومعهم دمشق بطبيعة الحال)، سيشكلون هذه المرة أحد عناصر الانتخاب الرئاسي، بكل احتمالاته، فإن لسان حالهم أن تشكيل حكومة جديدة في لبنان يساعد على فتح الأبواب وبالتالي إجراء الاستحقاقات الدستورية، لكنهم، كما جرت العادة، سيفوّضون حلفاءهم اللبنانيين، أن يحددوا موقفهم، في ضوء الخيارات المتاحة.. فهل صار لكل من "8 و14 آذار"، لائحة مرشحين رئاسيين أم لا؟
ليس كافياً أن يحدد هذا الفريق أو ذاك وحده موقفه، ما دام يتعذر عليه توفير نصاب الثلثين في كل الدورات، وما دام يتعذر عليه توفير الغالبية المطلقة (65 نائباً) من الأصوات بدءاً من الدورة الثانية.
يقود ذلك إلى الاستنتاج أنه ليس بمقدور العالم كله ولا هذا الفريق أو ذاك أن يفرض مرشحه. سيحاول كلا الفريقين الفوز بالصوت الجنبلاطي المرجح، والأهم بقوة النصاب.. ولذلك، قرر ميشال عون أن يفتح خطوطه مع سعد الحريري من روما إلى "بيت الوسط"، مستفيداً من الهوامش التي يتركها له حليفه "حزب الله" بوصفه مرشحه العلني الأول.
هو الاعتقاد نفسه السائد عند سمير جعجع وأمين الجميل بأن حليفهما سعد الحريري قادر على توفير الأصوات الجنبلاطية.. وربما أكثر منها.. من دون إهمال "النكايات" التي رافقت التأليف الحكومي، وما تركته من خدوش في العلاقات داخل هذا الصف الآذاري أو ذاك.
فهل أتقن عون وجعجع والجميل لعبة الحكومة تبعاً للمسار الرئاسي، أم ثمة "فاولات" ارتُكبت أبعدت أحدهم عنه؟
اذا عدنا الى مربع العناوين الثلاثة في المنطقة، من سوريا الى الملف النووي الايراني مروراً بالملف الفلسطيني الاسرائيلي، نجد أن المسرح الاقليمي لا يزال مفتوحاً على اشتباك كبير، وهو قابل للاحتدام، خاصة بين الرياض وطهران، برغم كل التعبيرات اللفظية المهادنة.. وها هي القيادة السعودية تردد أنها لن تقبل بأقل من الحصول على التزام واضح بأن لا يترشح الرئيس السوري لولاية رئاسية جديدة في الصيف المقبل.. بينما يريد الايرانيون والروس عكس ذلك.
في خضم هذا الاشتباك، فاز لبنان بحكومة، لكن نيلها ثقة مجلس النواب غير مضمون، ما دامت لا تعرّض الاستقرار المطلوب دولياً وإقليمياً.. للخطر.
هل الرئاسة تحمي الاستقرار أم أنها يمكن أن تعرّضه للخطر؟
ref:wataniya