
تخاض المعارك دفعة واحدة بعنوان "الحكومة"، فيما التأليف له حساباته المتبدلة على مدار الساعة، بدليل الشروط التي استجدت، أمس، وجعلت المداورة تنكسر على قاعدة إسناد حقيبة "الداخلية" للواء أشرف ريفي مقابل إعادة الطاقة إلى "تكتل التغيير" ولو تسلمها وزير غير جبران باسيل
صحيح أن "حزب الله" قوة إقليمية، لا بل انه شريك في تقرير مصائر المنطقة، ونموذج قلّ مثيله في العقود العربية الأخيرة، لكنه عندما ينخرط في اللعبة المحلية، خاصة في الزمن السوري غير المسبوق، يبدو أكثر تواضعا من أي وقت مضى وحساباته مختلفة.
هنا يتقدم دور شريكه وحليفه نبيه بري. لا يريد "الثنائي" أي مسّ بالبيت المشترك.
هذا عنصر أول من عناصر قوتهما معا. من بعده، تأتي عناصر أخرى. العلاقة بالدولة وبمؤسساتها وخاصة الجيش. العلاقة بالمكونات السياسية والطائفية اللبنانية كلها وخاصة ميشال عون. العلاقة بقوى اقليمية وخاصة ســوريا وايران.
محليا، لم يتمكن "حزب الله" من إيجاد شريك سنّي يعوض خسارته لـ"المستقبل" منذ لحظة انهيار "التحالف الرباعي".
كل مشاريع "الشراكات" ظلت أضعف من رهان التعويل عليها.. حتى أن هؤلاء يأخذون على الحزب أنه لم يتعامل معهم يوما بوصفهم حيثية قائمة بذاتها، بل مجرد بديل عن ضائع.. لا بد وأن يجمعهما "بيت الطاعة" معا في يوم من الأيام.
بهذا المعنى، شكّل ميشال عون، بالفائض المسيحي الذي يمثله منذ 2005 حتى اليوم، أفضل تعويض، فكان توازن لبناني، أرساه "تفاهم شباط 2006"، ولو أن "حزب الله" قد فرّط به، لبدا مكشوفا.. في الداخل، لكن للمعادلة وجها آخر، فقد أفاد "الجنرال" من رصيد حليفه ونفوذه الممتد من بيروت الى طهران، بأكثر مما تبيح له معادلات الداخل اللبناني، ولو أنه لم يحسن الاستثمار دائما.
برغم ذلك وغيره، تبدو علاقتهما أحيانا مشوبة بمنظومة حسابات ومصالح متضاربة. بعد السابع من أيار 2008، توجه وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم بسؤال محدد إلى السيد حسن نصرالله: ما هي لائحة مطالبكم؟ فأجابه نصرالله: التراجع عن القرارين (إقالة العميد وفيق شقير وتفكيك شبكة اتصالات الحزب). قال له بن جاسم: فقط تريد التراجع عن القرارين؟ وكان جواب "السيد": نعم. فقط. فقط. فقط.
كان مناخ الوسيط القطري يشي بأن لبنان على عتبة "ميني طائف"، وأن المطالب ستتجاوز قرارين سقطا بمجرد أن أحكم "حزب الله" قبضته على العاصمة ومرافقها ومؤسساتها الأساسية.. غير أن الجواب كان أوضح من الواضح.
برغم كل الاتهامات التي تكال له، بدا أن "حزب الله" لم يغادر مربع التواضع السياسي. هو مربع لطالما أزعج ميشال عون الذي بدا متحمسا في غير مرة للقتال بزنود حلفائه وعضلاتهم.. من نظرية "اقتحام السرايا الكبير" في لحظة بدء اعتصام رياض الصلح.. إلى يومنا هذا. يوم الوزارة والرئاسة والطاقة.
كان بمقدور عون أن يكون مقررا أساسيا في تحديد هوية رئيس جمهورية لبنان في العام 2008، لو أنه عمل بنصيحة الوفد الأوروبي الذي زاره في الرابية، وأفضى إليه بأن حظوظه معدومة.. ولكنه يستطيع أن يكون اللاعب الأول في مسرح الرئاسة الأولى.
راهن ميشال عون قبل ست سنوات على الرئاسة، وخاصة بعد أيار 2008، فأوصل ميشال سليمان على حصان أبيض.. ولو أنه استطاع إدارة العلاقة مع سيد بعبدا الآتي من مضارب مؤسسة عسكرية واحدة، بطريقة مختلفة، لتبدلت معطيات كثيرة على مستوى حضور "التيار" في إدارات الدولة ومؤسساتها.. ولكن حصل العكس..
والمسؤولية تقع على الاثنين معا!
يسجل للحزب أنه ساهم في تكريس حضور وازن لميشال عون في حكومات ما بعد انتخابات 2009، ولكنه في مفاصل أساسية، لم يكن قادرا على المسايرة. نموذج التمديد لقادة الأجهزة الأمنية (العماد جان قهوجي تحديدا) أو تعيين قادة جدد (نموذج "فيتو" الرابية على اللواء عباس ابراهيم بعنوان أنه موقع ماروني).
نموذج التمديد للمجلس النيابي الحالي. نموذج الانخراط في الحرب السورية. صحيح أنه يدين له الى "يوم الدين" وقوفه الى جانب المقاومة في تموز 2006، يوم وقف العالم كله في وجهها، وحماية جمهورها بالتوازن الذي أنتجه "التفاهم"، ولكنه لا يساير في قضايا استراتيجية، مثل العلاقة مع نبيه بري.
ولطالما أخذ الحزب على "الجنرال" أنه يملك هوامش أوسع من هوامشه، في ما يخص العلاقات الداخلية والخارجية. نصحه بالانفتاح على سعد الحريري ووليد جنبلاط، في عز خصومته معهما، كما في لحظات الالتقاء. يسري الأمر على علاقات عون مع السعودية والأميركيين، غير أن عون، كان يضيّق على نفسه، ليختار فجأة، وبتوقيته هو، قرارا بالانفتاح، على السعوديين، في خضم حربهم "السورية" المفتوحة على "حزب الله".
لم يرفع الحزب الصوت.. لا بل زاد الطين بلة بأن عبّر "الجنرال" عن رغبة بالانفتاح على الحريري. بدا الرجل مهتما بتعبيد طرق محلية وإقليمية، تساعد في رفع حظوظه الرئاسية، فكان له ما أراد. حاور السعوديين، وكاد يزور الرياض لولا إشكال بروتوكولي ـ سياسي. التقى سعد الحريري، بمشيئة "مقاولين" في السياسة والأعمال.
راهن على الرجل أكثر مما يمكن أن تبيح له خبرته السياسية. جزم بـ"الثقة المتبادلة" و"النضج" و"وجود قواسم مشتركة". وضع نفسه لساعات وأيام على سكة الرئاسة، قبل أن يسارع سعد الحريري إلى تبديد تلك الأحلام بقوله انه لن يفصل بينه وبين سمير جعجع.. إلا الموت.
ماذا بعد، هل هي معركة تلزيم النفط أم رئاسة جمهورية؟
على الأرجح، أنها معركة الاثنتين معا، لكن واحدة منهما تحتمل التأجيل ويمكن تعويضها، أي الطاقة، الا اذا كنا قد بلغنا ما يتجاوز مرحلة التلزيم، لكن الثانية (الرئاسة)، مصيرية، ولا تحتمل التأجيل لست سنوات جديدة. هي الفرصة الأخيرة لـ"الجنرال"، وهذا حقه المشروع كآت من خارج النادي التقليدي وكعابر استثنائي لن يتكرر في تاريخ المارونية السياسية في لبنان ورجالاتها..
لو أن عقلا سياسيا قادرا على المناورة والأخذ والرد، لاستعار عبارة ارتجلها أحد كبار المصرفيين في لبنان بقوله "لو كنت مكان سعد الحريري.. لن أتردد بإيصال "الجنرال" إلى بعبدا. انه الرجل الوحيد في الجمهورية.. الذي يستطيع أن يأخذ من السيد نصرالله.. أما غيره.. على الأرجح سيعطون ولن يأخذوا منه شيئا"!
لن يرتجل سعد الحريري هكذا عبارة.. وهو الذي أقسم يمينا بترك لبنان واعتزال السياسة غداة 14 آذار 2005 اذا ألزمه أحد بالتعاون أو التحالف مع ميشال عون.
أيضا لن يكون ميشال عون صاحب فرصة رئاسية حقيقية إلا إذا "انتصر" بشار الأسد في سوريا.. لكن الزمن الحالي، ليس زمن انتصارات.. وثمة سنوات ضوئية قبل أن ترتسم الخريطة الجديدة لسوريا.. والمنطقة، لا بل العالم، فهل يمكن لقيادة "حزب الله" و"التيار الوطني" أن يجلسا للمرة الأولى الى طاولة الصراحة والشراكة، لقياس حسابات الربح والخسارة الوطنيةأن يضعا خريطة طريق لجعل ميشال عون مقررا في الرئاسة اذا تعذر عليه أن يكون رئيسا. أن يرسما تصورا حول مستقبل قطاع النفط والغاز في لبنان، بعيدا عن صفقات تجري في الغرف المغلقة. تصور يمكن أن يلزم أوسع دائرة من المتماهين معه على الصعيد الوطني..
على قاعدة الاقرار بأن ما صنعه "تكتل التغيير" في هذه الوزارة مختلف جذريا عما فعله كل من احتلها من قبل، بمن فيهم وزير "حزب الله".
لـ"الجنرال" أن يطمح.. لكن من حق "حزب الله" وجمهوره أن يكونوا واقعيين.
الواقعية تقول اليوم بأن لا أولوية تتقدم على تخفيف منسوب الدم ومحاصرة الفتنة.
ليذهب "الجنرال" في عيد "التفاهم" الثامن الى حارة حريك مسقط رأسه. هناك وقع انفجاران متتاليان أمام منزل ذويه حيث انتصبت اليوم أبنية فارهة. هناك سيجد جمهورا متوجسا لا يطلب شيئا الا الأمان. لا يطلب شيئا الا الأمان . Ref:Wataniya